المكتب الرئيسي عدن

كنايٍ يَشرَحُ الغرقَ العَميق

أنا – ببنطال مَشقوق،
نعل مهترئ، وقلب مثقوب –
أُحضِّر لاغتيال العالم،
لمعاكسة رياح الجنون التي تعصف به،
إعادة الأرض لمكانها الحقيقي،
خارج هذه المجموعة الشمسيّة.
بلسان قصير وألثغ،
مقابل كل الفوّهات المحشورة في فمي.

أنا – بروح هَرِمة،
أرجُل مبتورة، وكآبة عالية التواتر-
أخطّط لتعكير صفو الجو المُصطنع،
لترك مقعدي فارغاً على طاولة العالم،
لقلب الطاولة،
لتحطيم الطاولة بفأس بدائي،
لإحراق خشبها المضغوط والمُفبرك
بأوَّل لسان لهب أنار وجهَنا الحقيقيّ.

أنا – بعيون تشي بالخوف،
قلب صغير لا يَحتمِل، وأصابع ترتَجِف –
أخطِّط لفقء الأعين المُتبقيّة للقراصنة،
إعادة المسامير المسحوبة من القنابل،
تقليم أظافر الكلاب المسعورة،
ثُمَّ التردّي من قِمّة عالية.

أنا – بمعدل ذكاء منخفض،
مُحاكمة قرد عالٍ، ومنطق أقرب للجنون-
أخطّط لإيجاد نظريّة لكل شيء،
اكتشاف سر الحياة،
الوصول لمعنى هذا الوجود،
وهدفِه.

أنا مُجرّد سمكة زينة
صغيرة لدرجة الدقّة

بوجه مُقطَّب، وذيل عاجز عن تغيير الجهات،
أعترض على القروش والحيتان،
أعترض على البحر،
على اللون الأزرق،
على السّمك،
وعلى الهجرة التي تُنهِك الزعانف الغضّة.

▀ ▀ ▀

أمضيت الشهور الأخيرةَ
وأنا أقضي الشهورَ الأخيرة،

كصفحة ماء ساكنة
في واحة نائية
بمكان مجهول عنّي
لا شيء يجري فيّ
سوى الوقت
وهذا الإحساس المُبهم بالانتظار
هذا الخريف الداخلي
لا ألوان له أبداً
لك تخيُّل ذلك
لا أوراق لتتساقط وتُعطي شكلها للريح
حتى الريح
-في الشهور الأخيرة-
كانت تخضع لمبادئ فيزياء السوائل
تسيل بصمتٍ وحذر
كنايٍ يَشرَحُ الغرقَ العَميق
لا شيء جرى أبداً في الشهور الأخيرة
غير أنّي كنت هناك
بعينين مفتوحتين
في كون خُلِق لكي تنظر إليه
وتهزَّ رأسك موافِقاً
لم أُتعِب نفسي في التَّفكير
استغرقت في الكَون والشُّعور
وبقيت كما خُلِقتُ
-بدون عناء المحاولة-
واحة نائية في مكان مجهول.

▀ ▀ ▀

أُكَذِّب كُلّ شيء
وأُصدِّق الابتسامة الحزينة
بالحزن وحده أشعر أنّي أعرف كُلّ الكائنات
عن ظهر قلب
جميع النّاس المخلوقة من ماء وحزن
جميع العيون المُجهَّزة بالدّمع
جميع القلوب المُعدَّة للانكسار
وأَعرِف أيضاً أنَّ الحُزن
هو أن أَجْمَع البقايا خلفكم
وأقتنع أنّها الحياة.

▀ ▀ ▀

هنالك طفل آخر
يعيش بالانشداه الأول
-الحلم الذي نسعى للعودة إليه-
بفم كبير وسِن ناصع
لسان “يكاغي” بلا ضوابط،
مخيلة لم تصطدم بالمنطق
لم تُسَلسَل بالذكريات،
وعيون هائلة الدقِّة
بفلاتر لجِنيَّات السحر،
وابتسامة لامعة لا تزول

هنالك طفل آخر
بكفوف صغيرة
وممتلكات ضخمة
مشغول بالاستكشاف على الدوام
لا رتابة تصيبه
لا روتين يلوكُه طوال اليوم
برغبات واضحة
ومشاعر محدَّدة
لا حيرة يتردَّد إليها
ولا ضياع يُؤخّرُه.

هنالك طفل آخر
لا يعرف التعقُّل أو الجنون
يطفو بين الواقع والخيال

  • بأساور صافية الرنين –
    خلف كلّ الترسانات،
    بدون أي انتماء
    يسمِّي الأشياء بأصوات مضحكة ومتشابهة
    فلا يُخطئ بينها
    لا أعضاء يداريها،
    ولا آثام يتفاوض عليها.

هنالك طفل آخر
بقلب يرفرف كطائر طنَّان
ذراعان تمتدّان للبعيد
تصلان ثدي المعجزات
مُخدَّر بالسعادة
بدون مورفينات،
كوكتيلات للفرح التجاريّ،
أو مضادّات للكآبة.

هنالك صبيّ آخر
يتربّص زوايا الحذر
بعينين تشيان بالخوف
وقلب يمشي على الرصيف
بتماسّ دائم مع الجدران،
فالشارع صراع مرعب،
الطرف الآخر حلم بعيد
ومجهول.

هنالك صبي آخر
يتلقّى الصدمات كملاكم
ينهض ويسقط باستمرار
يتلمَّس العالم كأعمى
يتلفَّت طوال الوقت
فالجهات كثيرة
الإشارات مُعَطَّلة
والعالم مليء بالثقوب.

هنالك رجل آخر
يستولي عليَّ كلَّما غفوت
بِطاقاتٍ لا تنفد
أرجل لا تتعب على طول المسير
وخطوة إضافية
بنَفَس ينتهي بعد الأفق
واشتعال لا ينطفئ،
أصابع تتسلل بخفّة للعمق

  • للقاع الذي يضيء شهوة –
    تصيب الأزرار الحسّاسة جميعها،
    فيأتيه العبق على شفاه من بلّور
    وغيوم بحلمة كرزيّة.

هنالك رجل آخر
يقف عند كُلّ خطوة لم أخطها
يمشيها طوال الوقت
بثقة ومسافات واسعة
يتجاوز الخطوط

  • على مختلف ألوانها –
    ويقبع تحت النوافذ التي رحلتُ عنها،
    يُقبِّل الشفاه التي تنتظرَ
    العنبَ الذي استحال نبيذاً،
    يرمي بقلبه بلا مقابل
    ولا مُبرِّرات.

هنالك رجل آخر
لا إسهاب في عينيه
ولا مواربة
برأس خالٍ من الصداع
وقلب بمزيد من الدم واللحم،
كهرباؤه تنبض بعنف،
أوقاته تمرّ بهدوء،
بلا استعجال يركله دوماً
ولا خيوط تشدّ بعصبيّة،
قولُه لا ينتهي
ولا يُمَل
بأقلام تُترجِمُهُ بعفوية،
وإله يقول “كُنْ” طوال الوقت.

هنالك رجل آخر
يهذي بكلّ ما أحلُم
يدور حولي كمحقِّق
بسيجار ينفث دوائر السلاسل
وقلم أحمر لِتَصحيحي،
يشير بأصابع الرّيبة،
ويصرخُ بصوتي:
كيف لكَ ألّا وألّا وألّا
كيف لَم
ولماذا؟

هنالك رجل آخر
يتَّهمُنِي بنزواتٍ لم تُلتَهم
رغبات لم أقضِها على قارعة الطريق
-كَكُلِّ حيوانات الله-
أكاذيب بيضاء لم تُضِئ
سوداء كانت ستنتصِر
ويفَتِّش فيّ على الدوام
عن الأصوات التي تتردَّد داخلي
وأتجاهلُها
عن الوجوه التي يرتديها أقنعة
وأخلعها.

هنالك دائماً آخرون
بأقنعة وسلاسل وملامح مُختلفة
يُصَدَّرونَ إلينا من ذات الضَّباب
يقفون على أطراف المواقف والأفكار
يضحكون بصفاقة ملء أنيابهم
يُشيرون بالأصابع والألسن والعيون
يقولون كُلّ ما نخاف ونُداري
يبتلعون الوجوه والحناجر والأصابع والقلوب
ويعيدونها خيط دُخان مُرتَجِف
ما إن يُفكِّر بنفسه حتى يضيع
ويفنى.

  • شاعر من سورية

صافي قطيني

Comments are closed.