المكتب الرئيسي عدن

قراءة نقدية في نصوص عائشة العولقي

156

عائشة العولقي ،فيما يخص تجربتي الخاصة في تلقي نصوصها _ صوت شعري حاضر وموجود ويستحق أن أفتح له أبواب ذائقتي ، بل وأنتظر جديده بصمت .
إلى جانب ذلك فهذا الصوت ،فيما يخص قناعاتي _ يمتلك عناصر إثارة وإدهاش وانمياز لافت لنظر المختصين ( على الأقل في تجربتي القرائية كمختص) ؛ ويمكن أن أقف عند أهم عناصر الإدهاش فيما يلي :

أولاً : اختيارها الشكل العمودي المرجعي للقصيدة العربية ؛ وتكمن الدهشة والمفارقة هنا ، في اختراقها للنظام والعادة في الاشتغال الشعري الأنثوي العربي ؛ فمن المعلوم أن أول من لاحظ أن القصيدة العمودية العربية مكتظة بالقيود وصارمة المعايير ، وتعمد إلى تضييق الخناق على تمدد المشاعر والعواطف _ أول من لاحظ ذلك ( نازك الملائكة ) فقدمت لديوانها بأطروحات نظرية تفسر القيود والنظام الصارم للقصيدة العمودية الذي لا يمهل المشاعر ، بل ويعمد إلى تقطيعها لأجزاء بسبب صرامة النظام الوزني ؛ فيؤدي ذلك الاضطرار لإرجاء إسقاط الشعور الدافق دفعة واحدة ،فيتم تجميده في النفَس وتوقيفه ،ريثما نفسح للوحدة الوزنية التي اكتملت ؛ ومن ثم إما نتخلص من الشعور الفائض بالإلغاء أو التأجيل لحشوه في الوحدة الوزنية القادمة ، وفي كلا الحالتين يضعف إيحاء النص بالمشاعر أو يعمد إلى تقطيعها وضياع طاقتها التعبيرية المفترضة . وكان مخاض ذلك انبثاق فكرة ضرورة وجود تسوية للأمر ، ومن ثم بدأت حركة التجديد في الشكل الشعري ( قصيدة المصراع الواحد ، ثم التفعيلة ) .

وعودة لعائشة العولقي ,فيما يخص اختيارها للشكل العمودي والمضي قدماً في جعله حاملاً لقصيدتها ؛ فثمة مفارقة هنا ، أي خرق للعادة ؛ فممارسات القصيدة من النساء ( القصيدة النسوية ) في تاريخ الأدب المعاصر _ ينأين عن شكل القصيدة العمودية ، ويذهبن لشكل التفعيلة أو قصيدة النثر ؛ ومنهن من ينأين إلى مدى مغادرة القصيدة إلى القصة والرواية . ولعل ما يفسر هذا النأي المستديم ، محاولة المرأة التخلص من القيود ، القيود الشكلية في الخطاب الأدبي كانعكاس وموقف نوعي ضد القيود الاجتماعية التي تفرض على المرأة في واقعها .
والأدب في النهاية ، وكحقيقة تفسيرية ، هو انعكاس لهواجس الذات وماتعانيه في واقعها ، وهو رؤية ذاتية خاصة حاملها المعاناة والألم والموقف .

ثانياً : الأكثر إدهاشاً في تجربة عائشة العولقي ، ومعها قلة من الشاعرات _ إنها تحاول أن تضع معاناتها ورؤاها وموقفها من قيود الحياة الاجتماعية التي تستبد بالمرأة في المجتمعات الذكورية _ تحاول أن تسجل موقفها المناهض لهذه القيود ،في شكل شعري مكثف بالقيود والالتزام والصرامة ؛ ولعل ما يفسر ذلك، رغبة الذات في الالتزام وعدم التجاوز ؛ إذا لم يكن الاستكانة وخيار المضي بموائمة وسلام بين القيود الثقافية والاجتماعية المفروضة على النوع الاجتماعي ،وبين أن تحقق (ولو) أدنى مستوى لطموحات الذات النوعية الذي يقترب من الخنوع والاستسلام.

وياللهِ مــن لوعـــــاتِ عجزٍ
يؤججُــها بعادُك واغترابــي

نَمَت أشواكُــها فغدت رماحًا
تزيدُ على تخفّيــها عذابـــي

وأظهرُ سلوةً لأزيــلَ ريـــبًا
وتعلمُ أنتَ دونَ الناسِ مابي

أكادُ إذا ذُكرتَ أذوبُ شوقًا
وأفتعلُ التغافلَ والتغابـــي

أما فيما يخص النص أعلاه ، والذي لايحمل عنواناً ؛ فإن جماليته وقيمته ،تكمنان في قدرة عائشة على منح النص وظيفة مزدوجة أي تحميله رسالة مزدوجة الدلالة ، أولها : إظهار أثر غياب الآخر على الذات
وما يخلفه من آلام وشوق مبطن ؛ رغم أن هذا البوح والإظهار محفوف بالمخاطر ؛ إلا أن الذات ترى أن البوح تم تخفيفه بما لايتعارض مع سقف الممكن ، كملفوظ أنثوي مرسل لآخر لم يتحدد بعد مدى إمكانية دخوله دائرة المسموح في المخاطبة .
ومن ثم فهذا الشق من البوح مرسل بشيء من المباشرة ؛ كخطاب يظهر أثر البعد المادي ( المسافة الجغرافية ) بين الذات والآخر ،وما تخلفه من آلام ووجع على الذات. .

أما الشق الثاني من المزدوجة الدلالية ؛ فرسالة دلالية مبطنة المعنى ، قد لايستطيع المرسل إليه استيعاب معناها ، وتتمثل في الهوة بين موقف الذات الناصة الإيجابي ، واشتغال الحب والعشق للآخر في هواجسها اللحظية المستديمة _ التي يقابلها الآخر بسلبية وصمت وعدم وجود مؤشرات لأي مبادرة من قبله ، فالمبادرة يقوم بها طرف واحد وهي الذات الناصة ، رغم القيود المثقلة التي تكاد تكتم أنفاسها ورغم خطورة المغامرة بالبوح .
ومن ثم فبعد وغياب الآخر ، كدلالة مدورة داخل النص ،من المفتتح إلى الختام ، وما يخلفه لدى الناص المحب _ يتجاوز المفهوم ، من البعد المادي ( المسافة الجغرافية الواقعية بين وجود الآخر ووجود الذات الراسلة ) إلى البعد والغياب في المبادرة بالوصول حتى على شكل مشاعر مرسلة أو أي شكل ملتزم يدل على اتصال وتواصل الٱخر البعيد والغائب .
ومن ثم فالذات الناصة تعاني من غيابات متناسلة ودائرية : غياب الذات النفسي عن المحيط الذي تبطله تصنعاً، بحضور مادي جسدي حيزي فارغ الاتصال والتواصل ..وغياب الآخر المادي
وغيابه عن المبادرة والإشعار بالاتصال والتواصل والقرب من هواجس الذات الناصة .

فيما يخص الصورة في البيت :
نمت أشواكها فغدت رماحاً
تزيد على تخفيها عذابي

فإن الصورة إنفجارية الإيحاء والدلالة، ومتجددة الانفجار ؛
فالشوك تمدد في حجمه ليغدو رماحاً ، وهنا إشارة إلى ثبات الوجع ومضاعفته عبر الزمن ..
ومن زاوية أخرى فالانفجار الثاني يضعنا أمام معادلة دلالية تجسد المسافة الزمنية اللامتناهية لتحوّل الشوك إلى رماح ؛ أي أن المسافة تمتد قدماً إلى اللامنتهى ، إلى درجة أن يتحول المعقول ( الشوك ) إلى اللامعقول ( الرماح ) فيما يخص طاقة الألم والمعاناة والانتظار الذي لايدل على وجود نهاية في الأفق .

ومن ثم فالمسافة غير المتناهية تلك ؛ إنما تشير وتتقصد المسافة بين وعي المرسل إليه بموقف الذات المرسلة ، وبين وعيه بآلام الذات ومدى عشقها له ،بل وهاجس ومكابدة الذات الناصّة من طرف واحد يبادر دون أن يبادر الآخر وهو نوع اجتماعي يفترض أن يكون أكثر مبادرة وأكثر تضحية ..فالمسافة بين وعي الذات ووعي الآخر تساوي المسافة الزمنية بين نمو الشوك وتحوله إلى رماح ؛ أي مسافة خرافية البعد والبون .

الدكتور بدر العرابي

+=

Comments are closed.