المكتب الرئيسي عدن

انتقامُ الشّاحِج أو الخوف والرّضا

ملأَ الصَّخَبُ رُدهةَ العيادة، بيد أنّه لم يكُنْ أوّلَ ما بثَّ الذُّعْرَ والاشمئزاز. سبقَ ذلك صوتُ الجرّارِ الزِّراعيّ الذي استخدمهُ الرّجالُ الخمسة لجَرّ البَغلِ المُحتضر. اختلط الصَّوتان ببعضهما؛ الجَرّارُ الدّابّةُ والبغلُ العَثِرُ بشحيجِه. نفَرٌ من الناس ادّعوا أنّ الرّجال لم يحملوه بالمقطورة، إنَّما ربطوه مُباشرةً بالجَرّار، وشآبيبُ الدّم تنفرُ من بَدَنِه اللّاهث طولَ الطريق.

وحدَه صدقي، مُنظّمُ الدَّور في العيادة، أفادَ بأنّ البغلَ نُقِلَ بالمقطورة، وعندَما رمَوهُ منها انتفضَ على قدميه. في حين نسُوا وهم يهربون إرجاعَ المقطورة إلى وضعيَّتها أثناء القيادة، فحطّمتْ قوساً حجريّاً ومرايا سيّاراتٍ ثلاث.

لم يكن الطّبيبُ الستينيّ ليستوعبَ التهديد من قتْلِ البغلِ أمام ناظريه وفي فناء عيادَتِه. لو ذبحوا دجاجةً لحقّقوا مُبتغاهُم أسرع، وأعفوا أنفسهم من عناءِ الإعدام. فالبغلُ، رغمَ اكتهالِهِ، حَرونٌ شَمُوسٌ، ما أنْ وطأ الأرضَ حتى رمَحَ على قائمتيه الخلفيّتَيْن، ناشباً طولَهُ الفارعَ في السّماء، فبدا كلُّ مَن يتربَّصُ به قزَماً مُجلّلاً بالغُبار.

يُقالُ إنّ للقبائل مُعتقداً: إذا أرادَت صيد الغزلان تتركُ لها منفذاً لتهربَ منه، لأنّها إذا ما حوصرت من أربع جهات تختفي وتتبدّد. لكنْ ماذا عنِ البغال، التي إنْ تلمّست غريزتُها الأذى، تُلقِ بنفسِها من شاهق… تنتحر. المُهمُّ ألَّا تدعَ يداً طويلة تغدرُ بها؛ يبدو أنَّ ما تقولُه الأساطير لا ينسحبُ على الواقع دائماً.

راقبَ البَلديّون الرّعاديدُ المشهدَ مِن طُوَقِ بيوتِهم، دون أن يُغيثوا طبيباً طالما عدُّوهُ مسيحاً يبرِئ أسقامَهم المُتكاثرة. صرخةٌ شاحبةٌ أُطلِقتْ من غلامٍ غيرِ مرئيٍّ: “إيّاكُن. إيّاكن البغل يا عمّي، لأنو مرصود”. لم يُسمَعْ غيرُ ذاك الاعتراض، فالاحتجاج بطبيعة الحال كان من أجل البغل لا الطّبيب!

بعدها حلّ شَللٌ مُطبق؛ إذ غُربِلَ لَبَانُ البَغلِ برشقتَيْ طلقٍ من بندقيّة “بيريتّا” مُخصّصةٍ لصيد الطُّيور، فهوى مثلَ ماردٍ خانتهُ قواه، راطماً خطمَه بحجرٍ صقيل، كاظّاً على لسانِه بأسنان خشبٍ، مُسْلِماً رأسَه المُشظَّى تحتَ الأقدام العَفِرَة.

تمارضُوا مَلقاً كما استغلّ بعضُهم الفُرصة ليعرِضَ خدماتِه

انتهتْ معركتُهم معه حَيّاً، وبدأتْ معركتُهم معهُ مَيْتاً، أعملَ رجلٌ الْمِهَدّة في قوائم البغلِ الأربع. ما لم يتكسَّرْ من عظامِه خلعَهُ بالمِقراط أو نشَرَه. بينما بَقرَ اثنان بطنَهُ بمعوَلٍ مُدبّبٍ غير حادٍّ، حتّى استحالَ أشلاءً موزّعةً بين غرفتي الانتظار والمُعاينة. أمسكَ أحزمُ الرِّجال مِعى الحيوان ونكثَ روثها صارخاً بعينيِ الطَّبيب: “فْتاح تمَّك المرّة الجاي منشان إحشيلك إياه بخراك… حاشا السّامعين”، ثمّ مسحَ العالقَ على يَديه ببياضِ حائطٍ نظيف.

مُلطّخينَ بدمِ البغل انسلُّوا إلى جَرَّارِهم الخَرِب، عندها حطّمَ خروجُهم قوساً حجريَّاً وعدّةَ مرايا، وكأنّ هولَ الإعدام لم ينقصْه سوى إمضاءٍ أخير.

بدأ المُحيطُ ينسربُ صوبَ العِيادة، وأطلقت جمهرةٌ اللّعناتِ على ذلك الصّنفِ من البَشر: “الله يهدّ جبرهن على حالهن… لا رحمة ولا شفقة”، متعاطفين مع مسيحِهم المُحترَم، يُلَملمون أشلاء الحيوان الضّخمة، ثمّ سرعان ما زادَ عددُهم. استغلّوا انكسارَ مِثالٍ ما كانوا ليحسبوه مُنهزِماً أمام حفنة أوباش.

طوى الطّبيبُ حقدَه أمامَهم، وبادَلَهم ابتساماتٍ صفراء، ولم يُعِرْ فضولَهم الخبيث أيَّ جواب: “أكيد هذا لأنك ثابت وما بترضخ لابتزاز ولاد الحرام، مش هيك يا حكيم؟”، “يِمكنُّن مِنْ متعاطي الحبوب، المُعيذْ الله!”. حتى ذلك الغلام الخَفِيّ حاولَ الظّهورَ على أكتاف الحُطام، كالأطفال ثقيلي الدّم. فاقتحَمَ المشهد مُردّداً عبارَته مباشرةً، لا من وراء صخرٍ كتيمٍ: “ما تْخاف يا حكيم، هذا البغل ما بيموت، وحياة البَرَكة إنّو عزيز ومرصود هيك بيقول جدّي، بدّو يرجع وينتقم منُّن”. نظرَ الطَّبيبُ إليه شزراً، ثم تجاهلَه دون انتباه. كلُّ ما فعلهُ أنَّهُ انهمَّ بإزالة الرّوث واللَّحم العالق على عُلَبِ الدّواء، وتطهير ميزان حرارة فموي صُودِفَ فوق مكتبِه لحظتها.

لم ينقطعِ المُراجعون عن العيادة رغمَ الفوضى، والرَّوائح النّتنة. فتمارَضُوا مَلقاً، كما استغلّ بعضُهم الفُرصة ليعرِضَ خدماتِه في تنظيف العيادة مقابلَ معاينة مَجّانيّة، أو علبة دواء تُصرَفُ بنصفِ ثمنها… هكذا حتّى انحسرَ اكتظاظُ الخوف عن روحِ المكان، وحلّ رضا مُريح لم يُعرَف مصدرُه. قيل: إنَّ دمَ شُؤمٍ قد تفجّرَ، وهو لا غروَ قربانٌ عن البلد وأهلِه. وقِيلَ: إنَّ ثلاثَ بناتٍ توأم وُلِدْنَ لامرأة عرجاء ظَنّوها عاقراً طويلاً، وما كانَ رجُلُها ليفرَح كلَّ الفرح لولا سرٌّ غيرُ مفقوهٍ يلفّ البنات التوأم… وقيلت ادّعاءاتٌ كثيرة.

يبدو أنَّ ما تقولُه الأساطير لا ينسحبُ على الواقع دائماً

سرَتْ شائعة البغل المرصود، وأنّ روحَه لن تنفكّ تطوفُ بالمكان أربعينَ يوماً، وقد تلتبِسُ بأحد المارّة في المحيط إذا ما حانتْ لها ساعةُ غَفلة. لكنّ أحداً لم يُولِ تلك الرّوحَ حذَراً، بقدر الخوف الذي أُولِيَ لعيونٍ تتبعُ أولئكَ الأوباشَ، وترصدُ المكانَ لصالِحِهم… بعد عدّة أيام، أخبرَ الطبيبُ مُنظّمَ دوره أنّ المغادرة مُتاحَة كونه ينوي الذهابَ صوبَ قلبِ المدينة في إجازة مفتوحة. أراد من وارء ذلك معاقبة بلديّين تخلّوا عنه، حسبَ زَعْمِهِ، في وقتِ مِحنتِه.

على الطريق، شعرَ صدقي وكأنّ الصباحَ لا يتزحزحُ من مكانِه، نظرَ من نافذة الباص إلى تلال جرداء مُرقّشة بنقاطٍ غبراء تتحرّكُ ببطء، إنّها مجرّد بغالٍ برّية مسكينة.

أقلقَ قدومُه في غير موعدِ الإجازة أمَّه، إلّا أنّها ما برحتْ تقطفُ تفّاحاتِ الدّم من تحت جلد الجدّة المُعمِّرة. لم يقوَ على التّملُّص من الرّواية المكرورة لجدّته عن أبيه المقتول منذ 30 عاماً، ها هو يسمعها طازجةً للمرّة الثانية في أقلّ من عشرة أيام، استمع إلى “كيفَ قُتِل والدُه غِيلةً لأنّه شهمٌ نبيلٌ وأعداؤه أجبنُ من أن يواجهوه”، استمعَ إلى أنّهم تربّصوا به ليلاً، وإمعاناً في التَّمثيل علّقوا جُثّتَه في سقف مزار نبيّ الله ذي الكَفل في آخر حيّهم المَحظيّ بالتّشريف.

وقبل أن تُنهي الجدة مرويَّتَها التي لا تكلُّ عن تكرارها، اخلتطَ حابلُ الدّم الجديد بنابل الدّم القديم. سَهمَ نظرُه، وفمُ الجدّة لا يَني يبخُّ رائحةَ الموت المترصِّد. وشخصُ والده، يطوفُ في مقام نبيّ الله باكياً، ويُغَلُّ كما قربانه جَاثياً، ولا يُقبَلُ منه. أمّا أمّه فيتقطّعُ جلدُها بتفّاحاتٍ من دَمٍ، وصوتُ شحيجٍ مجهولُ المصدر يُصمُّ الآذان، أماراتُ إنطاقٍ بالحقّ ولو بعد حين.

فتحَ صدقي عينيه على نَفَسِه المُنقطِع فَوَجدَ نفْسَهَ في غرفتِه، ولم يمرَّ على نومه سوى ساعتين، لا تَسُدّان جوعَه إلى نوم عميق بعد كُلِّ ما مرَّ به. دفعَه الأرق إلى شُبّاك غرفته، أخذ يدخّن بشراهةٍ، وأصواتُ الأذكارِ والآيات تنبعثُ من جِوارات الحيّ، ومُكبّراتٌ تُؤْذِنُ باقتراب المَولد، وأخرى بـ”واذكُرْ إسماعيلَ واليسَعَ وذا الكفلِ وكلٌّ منَ الأخيار”.

امتدّتِ الإجازة فبدأ الحيُّ يُصبِحُ مُتنفّساً، ويتحسّنُ أداءُ نومه، إذ خفّف توتُّرَه السيرُ اليوميّ، والتردّدُ إلى مقام نبيِّ الله. تلقّى اتّصالاً من الطبيب حدّثَهُ فيه عن النّقابة التي ستفتَحُ تحقيقاً في الاعتداء، كونَه جزءاً من اعتداءات مُتسلسلة. أحسّ أنّ قاعدةً تسنُده في مواجهة كلام جدّتِه الذي دَهمَهُ بجبَلِ خوفٍ أسود أثقل من موقعةِ إعدام الشّاحِج الحمراء. لم يستطع تسمية ذلك الإحساس، عبّ نفَسَاً عميقاً وتفطَّنَ إلى منزلة رماديّة… لعلّه الرّضا.

بطاقة

كاتب قصة من مواليد عام 1992، مُجاز من قسم اللّغة العربية في “جامعة دمشق”. نشر مقالات في النقد الأدبي في مواقع وصحف عربية عدّة. يُحرِّرُ “صحيفة المُتلمِّس”، وهي منصة إلكترونية تأسّست عام 2020 وتُعنى بالكتابات النقدية حول الآداب والفنون والترجمة وتكتبها مجموعة من الأسماء العربية الشابة. كذلك عمل في إنتاج محتوى صوتي، بالإضافة إلى عمله في الصحافة الثقافية.

أنس الأسعد

Comments are closed.