المكتب الرئيسي عدن

القصيدة كسلطة بديلة

تحليل : بدر العرابي

إن من إحدى أهم الوظائف الإطارية للقصيدة خاصة ،والأدب عامة ، كخطاب جمالي ، هي الممارسة التعويضية البديلة للسلطة والحاكمية للوجود عامة، بمافيه من مدخلات، أرقاها الإنسان ؛ وإذا كانت القصة ،كخطاب مقابل ومتقاطع نوعي مع القصيدة من حيث الطبيعة والآلية البنيوية _ تسعى في أحد أكبر وظائفها إلى تطويع الزمن لحاكمية الإنسان ؛ من خلال طبيعتها البنيوية المخاتلة لخطية الزمن الصلبة العاصفة بأحلام ورغبات الإنسان ،ولو افتراضاً ،من خلال فسحة التلاعب بالزمن وخطيته عن طريق تفتيت فاعليته وكسر خطيته وتعديل اتجاهه وفقاً لنظام بنيوي مجازي، يسمح للإنسان / الناص التحكم به عن طريق المزامنة والعودة واستشراف الغيب _ فأن القصيدة تعمد ،كنوع مقابل ، إلى إزاحة فاعلية الزمن بشكل كلي ،لتضع عالماً افتراضياً حراً تقوده المشاعر والأحاسيس والهواجس النفسية وتشكلات الصور الموازية للوجود المحكوم فعلياً من قبل الزمن .

إن أمثل النماذج الشعرية في تاريخ الأدب العربي المجسدة للسلطة، كهاجس وظيفي يدفع بالذات الناصة لإنجازه وممارستها وإبرازه بقوة _ نجده عند امرئ القيس والمتنبي ؛ إذ تبرز قصيدتهما حاكمية الذات ، وإن بشكل مباشر متقاطب مع مركبات نقص عقدية خاصة بواقع الذات ، أو بشكل هاجس موضوعي ومعجمي مؤطر لأسلوب، تنفرد به الذات ويطغى على الانتاج الأدبي للشاعرين .

فأما امرئ القيس ؛ فأن معلقة ( قفا نبك ) تمثل صراع الذات بين هاجس غياب وانفراط السلطة والحاكميةالقسري، عن الذات ،كواقع فعلي ، واستحضارها كواقع افتراضي نصي بديل . فإذا ما استنطقنا نص ( قفا نبك ) ؛ سنجد ارتكازاً دلالياً ممتداً ، من أول النص حتى نهاية النص .
ومن ثم فالسلطة ،كمعنى غير مباشر، هي النقطة التي تتمركز عليها اشتغالات هواجس الذات الخفية ، من حيث تداعي الموضوعات والمضامين ،من جهة ، والدوران في حقل معجمي من الصيغ والألفاظ الدالة على الحاكمية والسلطة ،من جهة أخرى ؛ فأما الموضوعات والمضامين ؛ فتظهر في مسار التعدد الموضوعي المشخص للحاكمية والسلطة المغيبة قسراً عن واقع الذات , وإذا ما تتبعنا التواتر الموضوعي الممتد من أعلى إلى أسفل _ سنجد طغيان هاجس السلطة ؛ إذ تختلف موضوعة البكاء على الأطلال ، كوحدة موضوعية لازمة في قصيدة النشأة العربية ، عند امرى القيس ،عن معاصريه ومن تبعهم إلى حدود ماقبل عصر الإسلام ؛ فيغلب هاجس السلطة في وحدة البكاء على الإطلال، من خلال المضمون الذي يسعى إلى تشكيل منطلق مكاني وزماني منقاد ومحكوم من قبل ذات الناص : ذكرى حبيب يخص الذات ؛ لكن دعوة الناص توجهت إلى الصحبة ( عينة إنسان محكوم ) للوقوف والبكاء بشكل جماعي ؛ وإن كان محرك البكاء ذاتياً خاصاً . كما تتجسيد السلطة الذاتية على المكان ؛ فالمكان ،جغرافياً ، تشكله ذاكرة الناص ؛ فتجعله بفضائه المتسع ، وبما هو عليه من حجب وطمر ،بسبب عامل التقادم الزمني ، شاخصاً خالداً ؛ كأنه كما كان سابقاً ، قبل مرور حقبة زمنية غير قليلة ، تكفي لطمره وحجبه المادي عن بصر الرائين ،و من جانب آخر ؛ فأن تموضع الناص، يجسد البعد السلطوي على المكان ؛ إذ يبرز، فعلياً، تموضع الذات في مكان عالي مسيطر ،ولو ذهنياً ،على الجغرافيا ، ويدفق معرفة مقابلة لدى الصحبة ، تسعى إلى فرض نفسها ، رغم عدم وجود تمركز ذهني وعلو عند الصحبة ؛ فماعليهم سوى الاستجابة و مشاركته البكاء على ذكرى حبيب لايمت لهم بصلة ،ولاتوجد لديهم استعدادات شعورية وعاطفية تدفع البكاء ؛ وهذا يمثل مظهراً سلطوياً ، يتجاوز السبب والسببية والمنطق .
إلى جانب ذلك ؛ فالناص يذهب إلى أبعد من ذلك ؛ حين يجسد سيطرته على حركة الزمن ،التي لم يحضرها فعلاً : ” فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما رسمتها من جنوب وشمأل ” وهنا محاولة لتبرير الواقع الجغرافي الذي رسمه ذهن الذات ، كذلك تبرز رغبة الناص في السيطرة على المكان ،إلى جانب الاحتضان الذهني الأفق للمكان ،من خلال عجز البيت الأول ثم صدر البيت الثاني وعجزه _ تبرز الرغبة في السيطرة على الأبعاد الرأسية للمكان :” ترى بعر الآرام في عرصاتها ( مكان مرتفع )وقيعانها ( مكان منخفض) في مقاطبة زمانية تسعى إلى إكمال السيطرة على المكان ،في أبعاده العمودية ، بعد السيطرة الأفقية التي برزت في عجز البيت الأول ومصراعي البيت الثاني ( سقط اللوى ، بين الدخول فحومل فتوصح فالمقراة …) .
ولأن هاجس السلطة هو البؤرة المضمونية التي يكتظ بها ذهن الناص ؛ لم يكتف الناص بإصدار أمر الوقوف الموجه للصحبة ؛ بل حرص على أن يؤكد استجابة الصحبة لأمر الحاكم :” وقوفاً بها صحبي عليي مطيهم .. يقولون لاتهلك أسى وتجملٍ ” ولم يكتف بتوجيه الخطاب للصحبة ؛ بل وجه الخطاب هنا ( وقوفاً بها صحبي ) للمتلقي ( المرسل إليه ) ليثبت تحقق سلطته للمتلقي التي بدأها في أمره ( قفا).

من زاوية أخرى ،فوحدة البكاء في معلقة امرى القيس ،تختلف عن وحدة البكاء عند معاصريه جميعهم ( طرفة وزهير ، وعنترة …إلخ ) في كونها تستحضر هاجس السلطة ،كمركب تعويضي افتراضي للتغييب الواقعي للسلطة الفعلية ؛ فعند طرفة يغلب الوصف الجمالي للطبيعة ، ولايأخذ البكاء مستوى من الانفعال ؛ بقدر ما يسعى إلى تشكيل لوحة جمالية مستبقية للذكرى ،أي تشكيل واقع ووجود جميل ،تنأى فيه الذات عن إسقاط هاجس نفسي مشتغل في الذهن ،سوى جمالية الماضي .

وبعد إفراغ امرى القيس من تأسيس واقع ووجود ومدكر بكائي، من صنع الذات ، كسحابة ، تنهمر من رحمها موضوعات ومضامين تتمركز حول هاجس السلطة _ يبدأ بتفصيل حاكميته ،عبر وحدات نصية تتصمن ملامح السلطة الذاتية على الوجود ،يمكن إبرازها في :

١_السلطة الجنسية ( السلطة على النوع / المرأة ):

ألا رب يوم لك منهن صالح.. ولاسيما يوم بدارة جلجل..
ولعلنا ندرك القصة الإطارية الواقعية لحادثة دارة جلجل التي باغت فيها امرى القيس النساء، وهن يستحمن بعري تام ، في جدول الماء المعتاد لهن ،بعد تحفظه على ملابسهن ، قبل أن يأمرهن بالمضي إقبالاً وإدباراً، وهن في حالة من العري الكلي ،واحدة تلو أخرى.

Comments are closed.