المكتب الرئيسي عدن

( العاشق الأسود )

نص قصير من رواية

ياسر عبدالباقي

– ” كان جدي ” آزر” رجلا محتالاَ، مخادعاَ وذكياً, خدع مجموعة من الناس وباع لهم دكان والده ومنزل العائلة في إيران وهرب على سفينة تجارية انجليزية, توقفت السفينة التجارية في المستعمرة الجديدة عدن, نزل جدي من السفينة ليتفحص المدينة . وأعجبته ورأى أنه من الممكن أن يبدإ فيها عملاً جديداً، وأيضاً المزيد من الاحتيال.

بحث عن مكان يقيم فيه كسكن ومقرٍ لعمله في نفس الوقت.

 وجد في أحد الأحياء القديمة “كريتر” منزلا قديماً يملكه إمام مسجد اسمه  جليل, وكان للإمام جليل  لحية بيضاء كبيرة، وكان يرتدي قميصا ويلف حولها فوطة  كالسكان المحليين لهذه المدينة.

 سأله الإمام قبل أن يفتح له باب البيت :

– هل انت مؤمن ؟

لم يحتج ” آزر”  وقتا طويلا ليفكر :

–  لا .

ابتسم الشيخ وأعطاه المفتاح وقال له :

– كل عشر أيام سياتي ابني ويأخذ جزءاً من إيجار البيت المتفق عليه .

استعان ” آزر”  بالسكان المحليين في مساعدته في تنظيف المنزل من الغبار والأوساخ التي كانت تملأ المنزل, أخبره أحدهم بأن البيت مسكون, لكن جدي ” آزر ” لم يكن مؤمناً بشيءٍ سوى المال.

أحضر النجار لكي يفصل له المنزل من الداخل، أخذ غرفة ومطبخاً وحماماً كمعيشة له, والقاطع الآخر مكتباً وغرفةً أخرى للبضائع.

لم يحتج  ” آزر ” وقتاً طويلاً حتى يتأقلم مع المدينة ويجيد لغة أهلها العربية إلى جانب اللغة الإنجليزية التي يجيدها, بدأ في التقرب من التجار الأجانب كمترجم لهم, لكنه في الحقيقة كان يوطد علاقته مع التجار المحليين ويتعرف على أكبر شريحة منهم ويكسب ودهم, لم يكن قد أعلن بعد عن مكتبه التجاري.

 لم تمضِ سنةٌ إلا وقد عرف أسرار المهنة, تجارة حبوب البن كانت رائجة ً ومرغوبة ً للتجارة إلى الدول الاوربية والإمريكية.

اعتاد جدي ” آزر” على أن يعود إلى منزله بعد صلاة العشاء لينام ويرتاح , لكنه بعد إقامته لفترة في المنزل كان  يجد أشياء مبعثرةً  أثناء عودته من الخارج, فراش النوم مبلول بالماء , الكرسي الوحيد في الغرفة يجده مثبتاً في أعلى الجدار, وأوراقه الخاصة ونقوده مبعثرة على الأرضية , كان في البداية يظن أن لصاً أو أحداً من سكان الحارة المحليين هو من يفعل ذلك, لكن أياً منهما لم يلمس روبية ً واحدة ً من نقوده, وكان هذا يصيبه بحيرة شديدة ، فقرر ذات يوم , أن يبقى في المنزل وينتظر الرجل الغريب الذي يعمل على  بعثرة أشياء بطريقةٍ نظاميةٍ وغريبة.

مر نصف نهار وعيناه مصوبة على الباب الخارجي لمنزله , تارةً جالسٌ على الأرض أو طريحاً على فراشه، أو جالساً على كرسيه, فإذا ما سمع حركة خفيفة من الخارج قفز حاملا بيده عصا.. لكن لا أحد.

نظر إلى ساعته الإنجليزية, كانت الساعة الخامسة عصراً, تردد في الخروج لشراء بعض الأغراض أو البقاء في المنزل. أغلق الباب وخرج, لكنه استدار فجأةً وقال كأنه يحدث شخصاً ما داخل المنزل :

– عشر دقائق فقط وسأعود.. عشر دقائق.

لكن سبع دقائق كانت كافية لـ ” آزر” لأن يعود إلى منزله ويجد كل شيء في البيت قد تغير، الفراش مبلول بالماء، والأوراق والنقود مبعثرةٌ على الأرضية , شيءٌ واحدٌ لم يتغير، فالكرسي وحده بقي في مكانه , حمل “آزر” العصا وركض إلى الحمّام ثم إلى المطبخ يفتشهما , وعندما عاد إلى غرفته وجد الكرسي مسمراً في أعلى  ووسط الغرفة.

حينها أدرك جدي “آزر” أنه لا يعيش وحده في البيت .

كان جدي آزر رجلاً شجاعاً غير مبال ٍ, رغم أنه لم يكن مؤمناً , إلا أنه أيقن أن هنالك روحاً أخرى تعيش معه في المنزل, لذلك جعل حياته طبيعية , وأصبحت هذه الروح من أساسيات حياته في المنزل.

 وذات يوم وضع لوحةً خشبيةً كبيرةً أعلى مكتبه الخارجي وكتب عليها ” مكتب آزر للتجارة الخارجية ” وجعل من ابن الشيخ جليل مديراً للمكتب يدير شؤون الأعمال أثناء غيابه.

عمل جدي آزر على شراء كميةٍ كبيرةٍ من البن بسعر مرتفع قليلاً عن السوق من التجار المحليين، وقام بتكديسها في مكتبه، إلى جانب أنه عقد اتفاقيات مكتوبةً لمدة سنةٍ مع كبار التجار المحليين لشراء كل البن منهم.

كل هذه الأعمال التي قام بها جدي آزر أغضبت كثيراً من التجار الأجانب الذين وجد بعضهم نفسه ملزماً بشراء البن منه بأسعار مرتفعة.. لم تمضِ سنةٌ إلا وازدهرت تجارة جدي آزر.. فاشترى بيت الشيخ جليل, وأصبح معه محاسب صوماليٌ يرتب شؤونه المالية, لم يكن جدي محتالا فحسب ,, بل كان كريما أيضاً, كان يقدم الكثير من المساعدات لجيرانه الفقراء، و قام أيضاً ببناء حمام للمسجد وحفر بئر فيه.

   وذات يوم وهو عائد مبكراً إلى مكتبه, شاهد فتاةً في الثامنة عشر من عمرها،  تخرج من مكتبه, فقام بمتابعة الفتاة حتى وجدها تدخل  منزل الشيخ جليل, فأدرك أنها ابنة الشيخ وأنها حضرت مكتبه لزيارة أخيها لسبب ما.

 أعجب جدي بـالفتاة, وبقى يفكر فيها كثيراً , كان يدرك جيداً صعوبة الزواج منها , هي ابنه شيخ مسجد , وهو لا يصلي وكما قال سابقاً للشيخ جليل إنه غير مؤمن.

    وبكر يوماً ما و اشترى قميصاً وفوطةً وكوفيةً زنجباريةً ومسبحة , وفي فجر أحد الأيام ارتدى القميص والفوطة , ووضع الكوفية على رأسه وخرج متجهاً للمسجد , لصلاة الفجر .

وقف آزر أمام المسجد فترةً من الزمان, وكان عدد من المصلين يتوافدون الى الداخل, لم يسبق أن دخل مسجداً ولم يسبق له أن صلى.

أخرج مسبحته من جيبه وجعلها بين أصابعه يتلاعب بها , ثم دخل وتعمد أن يجلس بين الصفوف الأولى خلف الشيخ.

التفت الشيخ جليل فجأه الى خلفه وشاهد آزر جالسا خلفه , فابتسم له.

Comments are closed.